
مدخل :
في البداية نشير الى اننا بازاء زوج مفاهيمي يطبعه التوتر والصراع،على اعتبار التناقض الواضح على مستوى الدلالة.لكن لن نسلم بذلك حتى نتبين بالملموس مدى صحة هذا الافتراض.فماذا نقصد بالوعي؟
"انه ممارسة لنشاط يدوي فكري، تخيلي،... مع إدراك الفرد لتلك الممارسة". و يمكن تفييء الوعي إلى أربعة اقسام وهي:
الوعي العفوي: الوعي يمكن الفرد من القيام بنشاط معين، دون أن يتطلب منه مجهودا ذهنيا كبيرا.
الوعي التأملي: بعكس الوعي التلقائي يتطلب تركيزا ذهنيا حادا بالاستناد على قدات عقلية مثل الذكاء ،الذاكرة...
الوعي الحدسي: انه وعي مباشر و فجائي يمكن الفرد من ادراك الأشياء أو العلاقات، ، دون أن يكون قادر على الإدلاء بدليل اوبرهان.
الوعي المعياري الأخلاقي: وعي يمكن من استصدار أحكام قيمة على الشيء او السلوك بحيث يرفض أو يقبل بالاحتكام فقط الى قناعات أخلاقية.
كخلاصة اولية يمكن القول ان الوعي يتمثل في إدراكنا للواقع و الأشياء، إذ بدونه تستحيل المعرفة بشكل عام. لذلك يمكن وصف الوعي بأنه « الحدس الحاصل للفكر بخصوص حالاته و أفعاله».
أما اللاوعي فهو يدل على مقابل الوعي. و هنا يمكن الحديث عن اللاشعور ،غير انه لفهم دلالة هذا،ستكون لنا وقفة مع مدرسة"التحليل النفسي" في المحور الثاني .
انطلاقا من هذا التصنيف الدلالي لمفهوم الوعي نطرح التساؤلات التالية:
ما هو الوعي؟ ما طبيعته؟ هل هو وعي بسيط و مباشر؟ أم هوغير ذلك؟ ماذا أدرك في فعل الوعي على وجه التحديد؟ ما طبيعة العلاقة بين الوعي واللاوعي؟ و هل يكفي أن نكون على وعي لمعرفة أنفسنا؟ هل الوعي هو أساس حياتنا النفسية؟ أو الوهم هو الأصل؟.
المحور 1 : مشكلة الوعي
تصور الفيلسوف " برتراند راسل":
قارب "راسل" الوعي من خلال ربطه بالمدركات الحسية ، حيث أكد على ضرورة عدم فصل الوعي عن مثيرات العالم الخارجي فهو عبارة عن ردود أفعال اتجاه الوسط. مما يعني أن الوعي طاقة تميز الإنسان عن الجمادات. و من ثم فإن الفيلسوف راسل يؤكد على تلازم الوعي مع حالة اليقظة، و ليس مع حالة النوم أي أنه غير مستمر في الزمن. وأكد كذلك على ضرورة الانتباه إلى عامل اللغة لأنها، في نظره، نظام غير منسق. وهنا نجده يميز بين نوعين من اللغة : لغة مرشدة تمكن من فهم طبيعة العالم الذي نتحدث عنه، ولغة خداعة للتفكير. لهذا فكثيرا من الفلاسفة الذين اعتمدوا عليها اربكتهم.
إن الوعي بالذات عند راسل يعني أمرين هما : دخول هذا الإنسان في علاقة مع العالم الخارجي، واكتشافه لذاته ولأفكاره و لعواطفه. أي أن هناك امتحانا للإنسان بإدراك وجوده الذاتي. وهنا يكمن مفهوم الوعي عند راسل و يتجلى. فعندما ندرك معطيات العالم الخارجي فإننا نكون، حسب راسل، فقط في مجال ردود الفعل اتجاه العالم، ونشترك في هذه الخاصية مع الجمادات. هذا يدل على أن الوعي لا يتحدد عند مستوى إدراك العالم الخارجي بل هو فقط رد فعل على النحو الذي تِؤذيه الحجارة و الجمادات عموما.
يرى راسل أنه يستحيل إدراك المادة إدراكا مباشرا، و أن لها وجودا واقعيا ملموسا. و يؤكد راسل على المعرفة القائمة على التجربة وعلى الحواس. وهو في الوقت نفسه يؤكد على التمييز بين الذات الواعية و الموضوع.
مما سبق يتبين لنا أن الجزء الأساسي من مفهوم الوعي مرتبط بمدى إدراكنا للوجود الذاتي. و تحصل هذه العملية بواسطة الاستبطانl Introspection ، مما يعني بأن الاستبطان منهج يمكن من دخول العالم الداخلي للإنسان وفهم علاقة الذات الواعية بمحيطها الخارجي، أي أنه في هذه الحالة لا يتعلق الأمر بشيء من بين أشياء العالم و الجمادات بل بذات لها طبيعتها الخاصة بها. و من ثمة فالشرط الأساسي لقيام الوعي حسب راسل هو إدراك الوجود الذاتي للإنسان عن طريق الاستبطان.
تصور الفيلسوف "هنري برجسون"
يتجاوز برجسون تصورالفيلسوف راسل ليؤكد على صيرورة الوعي في الزمن، ليشير به إلى جميع العمليات السيكولوجية الشعورية. فالوعي أو الفكر عند برجسون ذو طبيعة مجردة أي أنه غير ملموس ويرفض أن يقترن بأي طابع ذاتي، حيث أنه دائم الحضور في حياة الإنسان، لا يقبل القسمة إلى لحظات شعورية ، بحيث تتدفق و تنساب عبر الزمن حتى يصعب التمييز بين لحظاته. إنه إدراك الذات وللأشياء في ديمومتها. أما تعريف الوعي بشكل واضح ونهائي فإنه يطرح صعوبة كبرى أدت ببرجسون إلى ربط الوعي بالذاكرة التي تحفظ ماضي الإنسان في الحاضرواستشراف للمستقبل. فالوعي قدرة على تجاوز الحاضر عقليا وتمثل صورة المستقبل.على اعتباران الإنسان الذي لا ذاكرة لديه لاوعي له، لذلك فشرط وجود الوعي هو وجود الذاكرة و استقراره بها، ليصبح انفتاحا على الحاضر و الماضي و المستقبل. فعندما نفكر في أي لحظة معينة فإننا نجد هذا الفكر يهتم بالحاضر و بما هو كائن، لكن من أجل تجاوز ما سوف يكون في المستقبل و هذا يعني أنه لا يوجد وعي عند برجسون دون مراعاة حياة المستقبل. فالمستقبل هو الذي يجعل الفكر يتقدم باستمرار دون انقطاع في الزمن و يجره إليه.
تصور الفيلسوف "ابن رشد"
من منطلق الاجابة عن السؤال التالي: هل الحس شرط لقيام الوعي بموضوعات العالم؟ يرى ابن رشد على غرار الفيلسوف أرسطو أن الإدراك الحسي شرط أولي و أساسي لقيام كل معرفة ووعي بموضوعات العالم الخارجي، على نقيض راسل الذي يعتمد منهج الاستبطان بدل منهج الاستقراء في إدراك العالم الداخلي.
المحور2 : الــــوعـي واللاوعـي
اشكال المحور:ما طبيعة العلاقة بين الــــوعـي واللاوعـي ؟ اي منهما يعد اساسا للحياة النفسية؟
تصور المحلل النفسي "س.فرويد":
إن اللاوعي، حسب رائد التحليل النفسي "س.فرويد"، هو أهم منطقة سيكولوجية نستطيع بموجبها أن نفهم سلوكاتنا سواء منها السوية أو المرضية . ومن ثم نستطيع أن نقول بأن الشخصية في تصور فرويد بمثابة " جبل الجليد " :أي أن ما هو خفي أضخم بكثير مما يظهر . فكيف يتشكل اللاشعور ؟
يجيب فرويد أن بناء الشخصية يتكون من ثلاثة مكونات ، وفهم العلاقة التفاعلية بين تلك المكونات هو الكفيل بتفسير حياتنا النفسية . وهذه المكونات هي:
∙ الهو le ça: وهو نسق نفسي يتألف من المكونات الغريزية والدوافع المكبوثةة . ويتمركز الهو حول مبدأ اللذة أو ما يصطلح فرويد على تسميته بنزعة الليبيدو. لأن همه الأساسي هو الحصول على اللذة ودفع الألم، حيث لا يعرف معنى التأجيل. ومن خصائص الهو أنه بعيد عن الواقع والعقل لكونه يتصف بالتهور والاندفاع.
∙ الأناle moi : وهو الجزء من الهو الذي تلاءم مع الواقع . و هو النظام السيكولوجي الذي يتصف - على عكس الهو - بالتعقل. ومن ثمة، فإنه يتمركز حول مبدأ الواقع ، وهمه الأساسي هو تلبية رغبات الهو بشكل يتلاءم مع الواقع ولا يثير غضب الأنا الأعلى .يسعى الى خدمة الاسياد الثلاثة.
∙ الأنا الأعلى le super ego : وهو النظام النفسي الذي يمثل جميع القيم والمثل الأخلاقية والعادات الاجتماعية.ويتشكل الأنا الأعلى بفعل الأوامر والنواهي ( التربية ) ؛ وهو ما يماثل في حياتنا النفسية مفهوم المثالية الأخلاقية، وما يقابل في الاصطلاح الأخلاقي العادي مفهوم الضمير .وهو بالمرصاد لمكون الانا.
إن الأنا إذن يوجد في بؤرة الصراع بين ضغط الهو، ورغبات الواقع، ومتطلبات الأنا الأعلى . ومن هذا المنطلق نفهم لماذا تقرن الفرويدية الشخصية السوية بقوة الأنا.. فالرغبات التي لن يستطيع الأنا تلبيتها فإنه يعمل على كبحها ثم كبتها في اللاشعور. هكذا يتشكل اللاشعور ويتضخم.
تصور المحلل النفسي" جاك لاكان":
باعتبار"جاك لاكان" من اهم المحللين الذين طوروا نظرية "س.فرويد" وعلى ضوء هذا التطوير فإن الهيئات النفسية التي وضعها فرويد: الأنا الأعلى، والأنا والهو ستجد نفسها داخلة في علاقة تجعل التشبيه المكاني المتضمن فيها يختفي. فالأنا الأعلى يصبح هو الرمزي Le symbolique، مجال النظام والقانون، ومكان الخطاب الأبوي ؛ والأنا يصبح هو المتخيل L’imaginaire، مكان الوهم، والحقيقة، والتغير، والملاحق التجميلية للذات التي هي ملاحق متحركة وهشة. والهو ليس له مكان إلا مجازا فهو المكان الذي ليس له مكان وهو العلة الغائبة للبنية، ويطلق عليه لاكان اسم الواقع Le réel؛ وإنتاجه يقع على مستوى موضوعات الرغبة. وموضوعات الرغبة، بالنسبة لفرويد، موضوعات متعددة، لكنها تابعة لعلاقة أساسية تحكم كل علاقة مع أي موضوع يدعوها لاكان العلاقة بالموضوع.
المحور3 الإيديولوجيا والوهم :
اول ظهور للفظ الإيديولوجيا كان بفرنسا بوصفها وهوكلمة مركبة تفيد علم اللأفكار، و يرجع الفضل في نحث الممفهوم إلى دستوت دي تراسي إبان الثورة الفرنسية ( 1789) ، حيث أعطى لهذا المفهوم مدلولين اثنين و هما:
معنى فلسفي: اعتبر فيه الإيديولوجيا علما يقوم على الملاحظة والاستقراء عوض التفسير اللاهوتي للعالم الذي يعتبره دو تراسي تفسيرا أوليا و بدائيا بينما الإيديولوجيا تمثل التفكير الراشد لارتكازها على الملاحظة والتجربة.
معنى إبستيمي: ينظر للايديولوجيا من منطلق انها « العلم الذي يدرس الأفكار بالمعنى الواسع لكلمة أفكار، أي مجموع وقائع الوعي من حيث صفاتها أو قوانينها وعلاقاتها ..»، ان دو تراسي حاول أن يعطي للإيديولوجيا بعدا علميا باعتبارها نسقا من الأفكار والتصورات البعيدة عن التمثلات اللاهوتية والميتافيزيقية ، دون اغفال المعطى التاريخي ،فالايديلوجيا ستوظف ضد الأفكار والتصورات المحافظة لارتباطها بالثورة الفرنسية وما أحدثته من تغيير جذري على مستوى المجتمع الفرنسي.
لربما لهذا السبب سينحث نابليون بونابرت معنى جديدا للإيديولوجيا حيث اختزلها في كونها أفكار المشاغبين الذين كانوا معارضين لحكمه ومن ثمة ستاخد طابعا قدحيا...
تصور الفيلسوف "ب.ريكور"
يرى بول ريكور أن الإيديولوجيا ترتبط ب:3 استعمالات: 1- معنى الاختلال والتشويه للواقع، و هذا المعنى يشيع بين عامة الناس و الذي كان مصدره الماركسية حيث تسند للإيديولوجيا معنى يجعل من الممارسة أساسا لها و أن الإيديولوجيا مصدر التشويه والاختلال.2- فتظهر فيه الإيديولوجيا كظاهرة تشويهية و تزييفية في مستوى اول لتصبح تبريرية أي أنها تتكلم بلسان الطبقة المسيطرة و حين يبرز العنف داخلها تتحول الايديولوجيا إلى أداة اضطهاد أكثر من المظاهر العنيفة التي تخلفها طاحونة الصراع الطبقي. 3- فيربطه بول ريكور بما أسماه بالإدماج أي أن الجماعة تعمل على استحضار ذكرياتها الأساسية باعتبارها أحداث أولية مؤسسة للهوية المحددة لتلك الجماعة، مما يسهم في تكوين عنصر جديد داخل بنية الذاكرة الجماعية.ليخلص الفيلسوف الى ان عملية الادماج لاتتحقق الا بحضور عنصرمن داخلها انه الوهم.
تصورالفيلسوف "ف. نيتشه"
في اطاراشتغاله على الايديولوجيا يلقي نيتشه الضوء على الطابع الأكثر سطحية و سوءا للوعي، فالوعي لدى الإنسان رغم تطوره فإنه لا يدرك معنى وعيه لأفعاله وأفكاره ومشاعره، بل حتى حركاته تبقى شبه ميكانيكية ،فهو دائما يفعل ليس وفق اختياراته بل نتيجة لإرادة قاهرة جاءت في صفة أمر (يجب عليك) ، فالانسان لا يعرف معنى الفكر الذي أصبح وعيا فالوعي عند نيتشه لا يعدو أن يكون أكثر من أجزاء الفكر السطحية و أكثرها سوءا. فمن الممكن جدا، حسب نيتشه، أن يعيش الإنسان حياته في استقلال تام عن الوعي،لما كانت الحياة البشرية معرضة للهلاك بوصفها حياة يؤطرها الصراع من أجل البقاء اضطر الإنسان أن يعبر عن نفسه في كلمات، ومن ثمة يكون نمو اللغة ونمو الوعي متلازمين.
شكراً philo agora .tk كلنا philo agora
ردحذفشكراً philo agora .tk كلنا philo agora
ردحذفشكراً philo agora .tk كلنا philo agora
ردحذف